الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **
قال الله تعالى: وفى (مسند البزَّار) وغيره مرفوعاً: (إنَّكَ لَتَنْظُرُ إلى الطَّيْرِ في الجَنَّةِ، فَتَشْتَهيهِ، فيَخِرُّ مشويّاً بين يَدَيْكَ). ومنه حلال، ومنه حرام. فالحرامُ: ذو المِخلَب، كالصَّقرِ والبازى والشـاهِين، وما يأكلُ الجِيَـفَ كالنَّسْر، والرَّخَـم، واللَّقْـلَق، والعَـقْـعَـق، والغُـراب الأَبْقع، والأسـود الكبير، وما نُهىَ عن قتله كالهُدهُـدِ، والصُّرَدِ، وما أُمِرَ بقتله كالحِـدَأة والغراب. والحلالُ أصناف كثيرة، فمنه: الدَّجاج: ففى (الصحيحين) من حديث أبى موسى (أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم أكل لحمَ الدَّجاجِ). وهو حارٌ رطب في الأُولى، خفيفٌ على المَعِدَة، سريعُ الهضم، جيدُ الخَلْطِ، يَزيد في الدِماغ والمَنِىِّ، ويُصفىِّ الصوت، ويُحَسِّنُ اللَّون، ويُقَوِّى العقل، ويُوَلِّد دماً جيداً، وهو مائل إلى الرطوبة، ويقال: إنَّ مداومَة أكله تُورث النِّقْرس، ولا يثبت ذلك. ولحمُ الديك: أسخنُ مزاجاً، وأقلُّ رطوبة، والعتيقُ منه دواء ينفع القُولنج والرَّبو والرِّياح الغليظة إذا طُبخَ بماء القُرْطُم والشِّبْث، وخصِيُّها محمودُ الغِذَاء، سريعُ الانهضام، والفَراريجُ سريعة الهضمِ، مُليِّنة للطبع، والدَّمُ المتولد منها دمٌ لطيف جيد. لحم الدُّرَّاج: حارٌ يابس في الثانية، خفيفٌ لطيف، سريعُ الانهضام، مُولِّد للدم المعتدل، والإكثارُ منه يُحِدُّ البصر. لحم الحَجَل: يُوَلِّد الدم الجيد، سريعُ الانهضام. لحم الإوَزِّ: حارٌ يابس، ردىء الغذاء إذا أُعتِيد، وليس بكثير الفضول. لحم البَطِّ: حارٌ رطب، كثيرُ الفضول، عَسِرُ الانهضام، غيرُ موافق للمَعِدَة. لحم الحُبَارَى: في (السنن) من حديث بُرَيْهِ بن عمر بن سَفينةَ، عن أبيه، عن جدِّه رضى الله عنه قال:( أكلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَحْمَ حُبَارَى). وهو حارٌ يابس، عَسِرُ الانهضام، نافِعٌ لأصحاب الرياضة والتعب. لحم الكُرْكىِّ: يابسٌ خفيف، وفى حرِّه وبرده خلافٌ، يُوَلِّد دماً سوداوياً، ويصلُح لأصحاب الكَدِّ والتعب، وينبغى أن يُترك بعد ذبحه يوماً أو يومين، ثم يؤكل. لحم العصافير والقَنَابِر: روى النسائِى في (سننه): من حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنه، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: (ما من إنسانٍ يَقْتُل عُصفوراً فما فوقَهُ بغير حَقِّهِ إلاَّ سألَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عنها). قيل: يا رسول الله؛ وما حقُّه ؟ قال: (تَذْبحُه فتأكُلُهُ، ولا تَقْطَعُ رأسهُ وتَرْمى به). وفى (سننه) أيضاً: عن عمرو بن الشَّريد، عن أبيه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ قَتَلَ عُصْفُوراً عَبَثاً، عَجَّ إلى الله يقولُ: يا ربِّ؛ إنَّ فُلاناً قَتَلَنِى عَبَثاً، ولم يَقْتُلْنى لِمَنْفَعَةٍ). ولحمُه حارٌ يابس، عاقِلٌ للطبيعة، يَزيدُ في الباه، ومرقُه يُلَيِّن الطبع، وينفع المفاصِل، وإذا أُكِلَتْ أدمغتها بالزنجبيل والبصل، هيَّجَتْ شهوَة الِجماع، وخَلطُها غير محمود. لحم الحَمَام: حارٌ رطب، وحشـيُّه أقل رطوبةً، وفراخُه أرطب خاصية، ما رُبِّى في الدُّور وناهضُه أخف لحماً، وأحمدُ غذاءً، ولحمُ ذكورها شفاءٌ من الاسترخاء والخَدَرِ والسَّكتة والرِّعشة، وكذلك شَمُّ رائحة أنفاسها. وأكلُ فِراخها معينٌ على النساء، وهو جَيِّد للكُلَى، يزيدُ في الدم، وقد روى فيها حديثٌ باطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ رجلاً شكى إليه الوَحدة، فقال: (اتَّخِذْ زوجاً مِن الحَمام). وأجودُ من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يتبعُ حمامةً، فقال: (شَيْطانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً). وكان عثمان بن عفان رضى الله عنه في خطبته يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام. لحم القَطَا: يابس، يُولِّد السوداء، ويحبِسُ الطبع، وهو من شر الغذاء، إلا أنه ينفع من الاستسقاء. لحم السُّمَانى: حارٌ يابس، ينفعُ المفاصل، ويضُرُّ بالكَبِدِ الحار، ودفعُ مضَّرته بالخَلِّ والكُسْفَرَة، وينبغى أن يُجتنبَ مِن لحوم الطير ما كان في الآجام والمواضع العَفِنة. ولحومُ الطير كلها أسرعُ انهضاماً من المواشى، وأسرعُها انهضاماً أقلُّها غذاءً، وهى الرِّقاب والأجنحة، وأدمغتُها أحمد من أدمغة المواشى. الجــراد: في (الصحيحين): عن عبد الله بن أبى أوْفَى قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعَ غَزَواتٍ، نأكُلُ الجَرَادَ). وفى (المسند) عنه: (أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ ودَمَانِ: الحُوتُ والجرادُ، والكَبِدُ والطِّحالُ). يُروى مرفوعاً وموقوفاً على ابن عمر رضى الله عنه. وهو حارٌ يابس، قليل الغذاء، وإدامةُ أكله تُورث الهزال، وإذا تُبُخِّرَ به نفع من تقطير البَوْل وعُسرِه، وخصوصاً للنساء، ويُتبخَّر به للبواسير، وسِمانُه يُشوى ويُؤكل للسع العقرب، وهو ضار لأصحابِ الصَّرع، ردىء الخَلط. وفى إباحة ميتته بلا سبب قولان: فالجمهور على حِلِّه، وحرَّمه مالك، ولا خِلافَ في إباحة ميتته إذا مات بسبب، كالكبسِ والتحريق ونحوه. وينبغى أن لا يُداوَمَ على أكل اللَّحم، فإنه يُورث الأمراض الدموية والامتلائية، والحمّياتِ الحادَّة، وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: إياكم واللَّحم، فإنَّ له ضَرَاوةً كضراوة الخَمر، وإنَّ الله يبغض أهل البيت اللَّحمى. ذكره مالك في الموطأ عنه. وقال (أبقراط): لا تجعلوا أجوافكم مقبرةً للحيوان اللَّبن: قال الله تعالى: وقال في الجنَّة: وفى (السنن) مرفوعاً: (مَن أطْعَمَهُ اللهُ طَعاماً فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لنا فيه، وارزُقْنا خَيراً منه، وَمَن سقاه اللهُ لبناً، فَلْيَقُلْ: اللُّهُمَّ بَارِكْ لنا فيه، وزِدْنا منه، فإنى لا أعلم ما يُجْزِئ من الطعام والشرابِ إلا اللَّبَن). اللَّبن: وإن كان بسيطاً في الحس، إلا أنه مُركَّب في أصل الخِلقة تركيباً طبيعياً من جواهرَ ثلاثةٍ: الجُبْنِيةِ، والسَّمنيةِ، والمائيَّةِ. فالجُبْنِيةُ: باردة رطبة، مُغذِّية للبدن. والسَّمنيةُ: معتدلة الحرارة والرطوبة ملائمة للبدن الإنسانى الصحيح، كثيرةُ المنافع. والمائيةُ: حارة رطبة، مُطْلِقة للطبيعة، مُرطِّبة للبدن. واللَّبنُ على الإطلاق أبردُ وأرطبُ مِنَ المعتدل. وقيل: قوَّتُه عند حلبه الحرارةُ والرطوبةُ، وقيل: معتدل في الحرارة والبرودة. وأجودُ ما يكون اللَّبن حين يُحلب، ثم لا يزال تنقصُ جُودتُه على ممر الساعات، فيكونُ حين يُحلب أقلَّ برودةً، وأكثرَ رطوبةً، والحامِض بالعكس، ويُختار اللَّبن بعد الولادة بأربعين يوماً، وأجودُه ما اشتد بياضُه، وطاب ريحُه، ولذَّ طعمُه، وكان فيه حلاوةٌ يسيرة، ودُسومةٌ معتدِلة، واعتدل قِوَامه في الرِّقة والغِلَظِ، وحُلِبَ من حيوان فتيٍ صحيح، معتدِلِ اللَّحم، محمودِ المرعَى والمَشربَ. وهو محمودٌ يُوَلِّد دماً جيداً، ويُرَطِّب البدنَ اليابس، ويغذو غِذَاءً حسناً، وينفع مِن الوَسواس والغم والأمراض السوداويَّة، وإذا شُرِبَ مع العسل نقَّى القُروح الباطنة من الأخلاط العفنة. وشُربُه مع السكر يُحسِّنُ اللَّون جداً. والحليب يتدارك ضرر الجِماع، ويُوافق الصدر والرئة، جيد لأصحاب السُّل، ردىء للرأس والمَعِدَة، والكبد والطِّحال، والإكثارُ منه مضرٌ بالأسنان واللِّثَة، ولذلك ينبغى أن يُتمضمض بعدَه بالماء، وفى (الصحيحين): أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم شرب لبناً، ثم دعا بماء فتمضمض وقال: (إنَّ لَهُ دَسَماً). وهو ردىء للمحمومين، وأصحاب الصُّداع، مؤذٍ للدماغ، والرأس الضعيف. والمُداومةُ عليه تُحدث ظلمة البصر والغِشاء، ووجع المفاصل، وسُدة الكبد، والنفخ في المعدة والأحشاء، وإصلاحُه بالعسل والزنجبيل المربى ونحوه، وهذا كُلُّهُ لمن لم يعتدْه. لبن الضَّأْن: أغلظُ الألبان وأرطبُهَا، وفيه من الدُّسومة والزُّهومة ما ليس في لبن الماعِز والبقر، يُوَلِّدُ فضولاً بلغميّاً، ويُحدِث في الجلدِ بياضاً إذا أُدمن استعمالُه، ولذلك ينبغى أن يُشاب هذا اللَّبنُ بالماء ليكون ما نال البدنُ منه أقل، وتسكينُه للعطش أسرع، وتبريدُه أكثر. لبن المَعْز: لطيف معتدل، مُطْلِق للبطن، مُرَطِّب للبدن اليابس، نافع مِن قروح الحلق، والسُّعال اليابس، ونفث الدم. واللَّبنُ المطلَقُ أنفعُ المشروبات للبدن الإنسانىِّ لما اجتمع فيه من التغذية والدَّموية، ولاعتيادِهِ حالَ الطفولية، وموافقتِهِ للفطرة الأصلية. وفى (الصحيحين): (أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُتىَ ليلةَ أُسْرِىَ به بقَدَحٍ من خَمْرٍ، وقَدَحٍ من لَبَنٍ، فنظر إليهما، ثم أخذ اللَّبنَ، فقال جبريل: الحمدُ للهِ الذي هَدَاك لِلفِطْرَةِ، لو أخَذْتَ الخَمْرَ، غَوَتْ أُمَّتُكَ). والحامض منه بطىء الاستمراء، خامُ الخِلط، والمَعِدَة الحارة تهضِمُهُ وتنتفعُ به. لبن البَقَر: يَغذُو البدن، ويُخصبه، ويُطلق البطن باعتدال، وهو من أعدل الألبان وأفضلها بين لبن الضأن ولبن المعز، في الرِّقَة والغِلظ والدَّسم. وفى (السنن): من حديث عبد الله بن مسعود يرفعه: (عليكم بألبانِ البَقَرِ، فإنها تَرُمُّ من كُلِّ الشَّجَرِ). ـ لبن الإبلِ: تقدَّم ذكره في أول الفصل، وذكر منافعه، فلا حاجة لإعادته. هو الكُنْدُرُ: قد ورد فيه عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم: (بَخِّروا بُيُوتَكُم باللُّبان والصَّعْتَرِ)، ولا يصحُّ عنه، ولكن يُروى عن علىٍّ أنه قال لرجل شكا إليه النسيانَ: عليك باللُّبان، فإنه يُشَجِّع القلبَ، ويَذْهَبُ بالنِّسيان. ويُذكر عن ابن عباس رضى الله عنهما أنَّ شُربه مع السُّكَّر على الريق جيدٌ للبَوْل والنِّسيان. ويُذكر عن أنس رضى الله عنه أنه شكا إليه رجلٌ النسيانَ، فقال: عليك بالكُنْدُر وانقَعْهُ مِن اللَّيل، فإذا أصبحتَ، فخُذْ منه شربةً على الرِّيق، فإنه جَيِّدٌ للنِّسيان. ولهذا سبب طبيعى ظاهر، فإن النِّسيانَ إذا كان لسوء مزاج بارد رطب يغلبُ على الدماغ، فلا يحفَظُ ما ينطبعُ فيه، نفع منه اللُّبان، وأمَّا إذا كان النِّسيانُ لغلبة شىء عارض، أمكن زوالُه سريعاً بالمرطبات. والفرق بينهما أنَّ اليبوسىَّ يتبعه سهر، وحفظ الأُمور الماضية دون الحالية، والرُّطوبى بالعكس. وقد يُحدِثُ النِّسيانَ أشياءُ بالخاصية، كحجامةُ نُقْرة القفا، وإدمانِ أكل الكُسْفُرَة الرطبة، والتفاحِ الحامض، وكثرةِ الهَمِّ والغَمِّ، والنظرِ في الماء الواقف، والبَوْلِ فيه، والنظر إلى المَصلوب، والإكثارِ من قراءة ألواح القُبور، والمشى بين جَمَلين مقطُورَين، وإلقاء القملِ في الحياض، وأكل سُؤْر الفأر، وأكثَرُ هذا معروف بالتجربة. والمقصود: أنَّ اللُّبان مسخِّن في الدرجة الثانية، ومجفِّف في الأُولى، وفيه قبض يسير، وهو كثيرُ المنافع، قليل المضار، فمن منافعه: أن ينفع مِن قذف الدم ونزفه، ووجع المَعِدَة، واستطلاق البطن، ويهضِمُ الطعام، ويطْرُدُ الرِّياح، ويجلُو قروح العَيْن، ويُنبت اللَّحم في سائر القروح، ويُقَوِّى المَعِدَة الضعيفة، ويُسخِّنها، ويُجفف البلغم، ويُنَشِّف رطوباتِ الصدر، ويجلو ظُلمة البصر، ويمنع القروح الخبيثة من الانتشار، وإذا مُضِغَ وحدَه، أو مع الصَّعْتر الفارسىِّ جلب البلغم، ونفع من اعتقالِ اللِّسان، ويزيدُ في الذهن ويُذكيه، وإن بُخِّرَ به ماء، نفع من الوباء، وطيَّبَ رائحة الهواء. مادةُ الحياة، وسَيِّدُ الشَّراب، وأحد أركان العالَم، بل ركنُه الأصلى، فإنَّ السمواتِ خُلِقَتْ من بُخَارِه، والأرضَ مِن زَبَده، وقد جعل الله منه كُلَّ شىءٍ حىٍّ. وقد اختُلِف فيه: هل يَغذُو، أو يُنفذ الغذاءَ فقط ؟ على قولين، وقد تقدَّما، وذكرنا القول الراجح ودليله. وهو بارد رطب، يَقمعُ الحرارة، ويحفظ على البدن رطوباتِهِ، ويرُد عليه بدلَ ما تحلَّلَ منه، ويُرقِّق الغذاء، ويُنفذه في العروق. وتُعتبر جودةُ الماء من عشرة طرق: أحدها: مِن لونه بأن يكون صافياً. الثانى: مِن رائحته بأن لا تكون له رائحة البتة. الثالث: مِن طعمه بأن يكون عذبَ الطعم حُلوَه، كماء النِّيل والفُرَات. الرابع: مِن وزنه بأن يكون خفيفاً رقيقَ القِوام. الخامس: مِن مجراه، بأن يكون طيِّبَ المجرى والمسلك. السادس: مِن منْبَعه بأن يكون بعيدَ المنبع. السابع: مِن برُوزه للشمس والرِّيح، بأن لا يكون مختفياً تحت الأرض، فلا تتمكن الشمس والريح من قُصارته. الثامن: مِن حركته بأن يكونَ سريع الجرى والحركة. التاسع: مِن كثرته بأن يكونَ له كثرة يدفع الفضلاتِ المخالطة له. العاشر: مِن مصبه بأن يكون آخذاً من الشَّمال إلى الجنوب، أو من المغرب إلى المشرق. وإذا اعتبرتَ هذه الأوصاف، لم تجدها بكمالها إلا في الأنهار الأربعة: النيلِ، والفُرات، وسَيْحونَ، وجَيْحونَ. وفى (الصحيحين) من حديث أبى هُريرة رضى الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (سَيْحَانُ، وجَيْحَانُ، والنِّيلُ، والفُرَاتُ، كُلٌ من أنهارِ الجنَّة). وتُعتبر خِفة الماء من ثلاثة أوجه، أحدها: سُرعة قبوله للحر والبرد. قال (أبقراط): المَاء الذي يسخُن سريعاً، ويبرُد سريعاً أخفُّ المياه. الثانى: بالميزان. الثالث: أن تُبَل قُطنتان متساويتا الوزنِ بماءين مختلفين، ثم يُجففا بالغاً، ثُم توزنا، فأيتهما كَانت أخفَّ، فماؤها كذلك. والماءُ وإن كان في الأصل بارداً رطباً، فإن قُوَّته تنتقِلُ وتتغيَّرُ لأسباب عارضة تُوجب انتقالها، فإن الماء المكشوفَ للشَّمال المستورَ عن الجهات الأُخَر يكون بارداً، وفيه يبس مكتسب من ريح الشَّمال، وكذلك الحكمُ على سائر الجهات الأُخَر. والماءُ الذي ينبُع من المعادن يكونُ على طبيعة ذلك المَعْدِنِ، ويؤثر في البدن تأثيره. والماءُ العذب نافع للمرضى والأصحاء، والباردُ منه أنفعُ وألذُّ، ولا ينبغى شربُه على الريق، ولا عَقيبَ الجِمَاع، ولا الانتباهِ من النوم، ولا عَقيبَ الحمَّام، ولا عَقيبَ أكل الفاكهة، وقد تقدَّم. وأما على الطعام، فلا بأس به إذا اضطُّر إليه، بل يتعيَّنُ ولا يُكثر منه، بل يتمصَّصُه مصّاً، فإنه لا يضرُّه ألبتة، بل يُقَوِّى المعدة، ويُنهض الشهوة، ويُزيل العطش. والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضِدَّ ما ذكرناه، وبائتُه أجودُ مِن طريِّه وقد تقدَّم. والباردُ ينفع من داخل أكثرَ مِن نفعه من خارج، والحارُّ بالعكسِ، وينفعُ الباردُ مِن عفونة الدم، وصعود الأبخرة إلى الرأس، ويدفع العفوناتِ، ويُوافق الأمزجةَ والأسنان والأزمانَ والأماكنَ الحارَّة، ويضر على كل حالة تحتاج إلى نُضج وتحليل، كالزكام والأورام، والشديدُ البرودةِ منهُ يُؤذى الأسنان، والإدمانُ عليه يُحدث انفجارَ الدَّم والنزلاتِ، وأوجاعَ الصدر. والبارد والحار بإفراط ضارَّان للعصب ولأكثر الأعضاء، لأن أحدَهما محلِّل، والآخر مُكَثِّف، والماء الحار يُسَكِّن لذع الأخلاط الحادة، ويُحلِّل ويُنضج، ويُخرج الفضول، ويُرطِّب ويُسَخِّن، ويُفسد الهضمَ شربُه، ويَطفُو بالطعام إلى أعلى المعدة ويُرخيها، ولا يُسرع في تسكين العطش، ويُذبل البدن، ويُؤدى إلى أمراض رديئة، ويضرُّ في أكثر الأمراض على أنه صالح للشيوخ، وأصحاب الصَّرْعِ، والصُّداع البارد، والرَّمد. وأنفعُ ما استُعمل مِن خارج. ولا يصحُّ في الماء المسخَّن بالشمس حديثٌ ولا أثر، ولا كرهه أحدٌ من قدماء الأطباء، ولا عابوه، والشديدُ السخونةِ يُذيب شحم الكُلَى. وقد تقدَّم الكلام على ماء الأمطار في حرف الغين. ماء الثَّلْجِ والبَرَد: ثبت في (الصحيحين): عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو في الاستفتاح وغيره: (اللَّهُمَّ اغْسِلنى من خطاياى بماءِ الثَّلْجِ والبَرَدِ). الثلج له في نفسه كيفية حادة دُخانية، فماؤه كذلك، وقد تقدَّم وجهُ الحكمة في طلب الغسل مِن الخطايا بمائه لما يحتاج إليه القلبُ من التبريد والتَّصْلِيب والتقوية، ويُستفاد من هذا أصلُ طبِّ الأبدان والقلوب، ومعالجةُ أدوائها بضدها. وماء البَرَد ألطف وألذُّ من ماء الثلج، وأما ماءُ الجَمَد وهو الجليد فبحسب أصله.والثلج يكتسب كيفية الجبالِ والأرضِ التي يسقُط عليها في الجودة والرداءة، وينبغى تجنُّب شربِ الماء المثلوج عقيبَ الحمَّام والجِمَاع، والرياضة والطعام الحار، ولأصحاب السُّعَال، ووجع الصدر، وضعف الكَبِد، وأصحاب الأمزجة الباردة. ماء الآبار والقُنِىِّ: مياهُ الآبار قليلة اللَّطافة، وماء القُنِىِّ المدفونة تحت الأرض ثقيل، لأن أحدهما محتقِنٌ لا يخلو عن تعفُّن، والآخر محجوبٌ عن الهواء، وينبغى ألا يُشربَ على الفور حتى يصمدَ للهواء، وتأتىَ عليه ليلةٌ، وأردؤه ما كانت مجاريه مِن رَصاص، أو كانت بئره معطَّلة، ولا سِيَّما إذا كانت تربُتَها رديئَةٌ، فهذا الماء وبىءٌ وخيم. ماء زمزمَ: سيِّدُ المياه وأشرفُهَا وأجلُّهَا قدراً، وأحبُّها إلى النفوس وأغلاها ثمناً، وأنَفَسُهَا عند الناس، وهو هَزْمَةُ جبريلَ، وسُقيَا الله إسماعيلَ. وثبت في (الصحيح): عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال لأبى ذَرٍّ وقد أقام بين الكعبة وأستارِهَا أربعينَ ما بين يومٍ وليلةٍ، ليس له طعامٌ غيرُه؛ فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (إنها طَعَامُ طُعْمٍ). وزاد غيرُ مسلم بإسناده: (وشفاءُ سُقْمٍ). وفى (سنن ابن ماجه): من حديث جابر بن عبد الله، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماءُ زَمْزَمَ لِما شُرِبَ له). وقد ضعَّف هذا الحديثَ طائفةٌ بعبد الله ابن المؤمَّل راويه عن محمد بن المنكدر. وقد روينا عن عبد الله بن المبارَك، أنه لمَّا حَجَّ، أتى زَمْزَمَ، فقال: اللَّهُمَّ إنَّ ابن أبى الموالى حدَّثنا عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر رضى الله عنه، عن نبيِّك صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماءُ زمزمَ لما شُرِبَ له)، وإنِّى أشربُه لظمإ يوم القيامة.. وابن أبى الموالى ثقة، فالحديث إذاً حسن، وقد صحَّحه بعضُهم، وجعله بعضُهم موضوعاً، وكِلا القولين فيه مجازفة. وقد جربتُ أنا وغيرى من الاستشفاء بماء زمزمَ أُموراً عجيبة، واستشفيتُ به من عدة أمراض، فبرأتُ بإذن الله، وشاهدتُ مَن يتغذَّى به الأيامَ ذواتِ العدد قريباً من نصف الشهر، أو أكثر، ولا يجِدُ جوعاً، ويطوفُ مع الناس كأحدهم، وأخبرنى أنه ربما بقى عليه أربعين يوماً، وكان له قوةٌ يجامع بها أهله، ويصوم، ويطوف مراراً. ماء النِّيل: أحد أنهارِ الجنَّة، أصلُه مِن وراء جبال القمر في أقصى بلاد الحبشة مِن أمطار تجتمِعُ هناك، وسيول يمدُّ بعضُها بعضاً، فيسوقُه الله تعالى إلى الأرض الجُرُزِ التي لا نبات لها، فيُخرج به زرعاً، تأكل منه الأنعام والأنام. ولما كانت الأرضُ التي يسوقه إليها إبْليزاً صلبة، إن أُمطرت مطر العادة، لم ترو، ولم تتهيأ للنبات، وإن أُمطرت فوق العادة، ضرَّتْ المساكنَ والسَّاكِن، وعطَّلتْ المعايشَ والمصالح، فأمطرَ البلادَ البعيدة، ثم ساق تلك الأمطارَ إلى هذه الأرض في نهر عظيم، وجعل سبحانه زيادَته في أوقات معلومة على قدرِ رِىِّ البلاد وكِفايتها، فإذا أروى البلادَ وعمَّها، أذن سبحانَه بتناقُصِهِ وهُبوطه لتتم المصلحةُ بالتمكن مِن الزرع، واجتمع في هذا الماء الأمورُ العشرة التي تقدَّم ذكرُها، وكان من ألطف المياه وأخفها وأعذبها وأحلاها. ماء البحر: ثبت عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: (هو الطَّهورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْـتَتُه). وقد جعله الله سبحانه مِلْحاً أُجَاجاً مُرّاً زُعَاقاً لتمام مصالح مَنْ هو على وجه الأرض مِن الآدميين والبهائم، فإنه دائمٌ راكدٌ كثيرُ الحيوان، وهو يموتُ فيه كثيراً ولا يُقبر، فلو كان حلواً لأنتَنَ من إقامته وموت حيواناته فيه وأجافَ، وكان الهواءُ المحيطُ بالعالَم يكتسِبُ منه ذلك، وينتُن ويجيف، فيفسُد العالَمِ، فاقتضت حكمةُ الرَّب سبحانه وتعالى أن جعله كالملاحة التي لو أُلقِىَ فيه جِيَفَ العالَم كلُّها وأنتانُه وأمواتُه لم تُغيره شيئاً، ولا يتغير على مُكثهِ مِن حين خُلق، وإلى أن يَطْوِىَ اللهُ العالَم، فهذا هو السبب الغائي الموجب لملوحته. وأمَّا الفاعلىُّ، فكونُ أرضِه سَبِخَةً مالحةً. وبعد.. فالاغتسالُ به نافع من آفات عديدة في ظاهر الجلد، وشربُه مُضِرٌ بداخله وخارجه، فإنه يُطلق البطن، ويُهزل، ويُحدث حِكَّة وجرباً، ونفخاً وعطشاً، ومَن اضطر إلى شربه فله طرق من العلاج يدفعُ به مضرتَه. منها: أن يُجعل في قدِر، ويُجعل فوق القِدر قصباتٌ وعليها صوفٌ جديد منفوش، ويُوقد تحت القِدر حتى يرتفع بخارُها إلى الصُّوف، فإذا كثُر عَصَره، ولا يزال يفعل ذلك حتى يجتمع له ما يريد، فيحصل في الصُّوف من البُخار ما عَذُبَ، ويبقى في القِدْرِ الزُّعاق. ومنها: أن يُحفر على شاطئه حُفرة واسعة يرشُح ماؤه إليها، ثم إلى جانبها قريباً منها أُخرى ترشَح هي إليها، ثم ثالثةٌ إلى أن يعذُبَ الماءُ. وإذا ألجأتْه الضرورةُ إلى شُرب الماء الكَدِرِ، فعِلاجُه أن يُلقَى فيه نَوى المِشمش، أو قطعة من خشب الساج، أو جمراً ملتهباً يُطفأُ فيه، أو طيناً أرْمَنِيّاً، أو سَويقَ حِنطة، فإنَّ كُدرته ترسبُ إلى أسفل. ثبت في (صحيح مسلم)، عن أبى سعيد الخُدرىِّ رضى الله عنه، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أطيبُ الطِّيبِ المِسْكُ). وفى (الصحيحين) عن عائشة رضى الله عنها: (كنتُ أُطيِّبُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يَحْرِمَ ويومَ النَّحْرِ قبل أن يطوفَ بالبيت بطيبٍ فيه مِسْكٌ). المِسك: مَلِكُ أنواعِ الطيب، وأشرُفهَا وأطيُبَها، وهو الذي تُضرب به الأمثال، ويُشَبَّه به غيرُه، ولا يُشبَّه بغيره، وهو كُثبان الجنَّة، وهو حارٌ يابس في الثانية، يَسُرُّ النفس ويُقَوِّيها، ويُقَوِّى الأعضاء الباطنة جميعها شُرباً وشمّاً، والظاهرةَ إذا وُضِعَ عليها. نافع للمشايخ، والمبرودين، لا سِيَّما زمن الشتاء، جيد للغَشْى والخفقانِ، وضعف القوة بإنعاشه للحرارة الغريزية، ويجلو بياضَ العين، ويُنشِّف رطوبتها، ويَفُشُّ الرياح منها ومن جميع الأعضاء، ويُبطل عملَ السموم، وينفعُ مِن نَهْش الأفاعى، ومنافِعُه كثيرة جداً، وهو أقوى المفرِّحات. ورد فيه حديث لا نعلم صحته: (عليكم بالْمَرْزَنْجُوش، فإنه جيدٌ لِلخُشامِ). و(الخُشام): الزُّكام. وهو حارٌ في الثالثة يابس في الثانية، ينفع شمُّه من الصُّداع البارد، والكائن عن البلغم، والسوداء، والزُّكام، والرياح الغليظة، ويفتح السُّدد الحادثة في الرأس والمنخرين، ويُحلِّل أكثرَ الأورام الباردة، فينفعُ مِن أكثر الأورام والأوجاع الباردة الرَّطبة، وإذا احتُمِل، أدرَّ الطَّمث، وأعان على الحَبَل، وإذا دُقَّ ورقُه اليابس، وكُمِدَ به، أذهب آثارَ الدَّم العارض تحت العَيْن، وإذا ضُمِّد به مع الخل، نفع لسعة العقرب. ودُهنه نافع لوجع الظهر والرُّكبتين، ويُذهب بالإعياء، ومَن أدْمَن شمَّه لم ينزل في عينيه الماء، وإذا استُعِطَ بمائه مع دُهن اللَّوز المُر، فتح سُدد المنخرين، ونفع مِن الريح العارضة فيها، وفى الرأس روى ابن ماجه في (سننه): من حديث أنس يرفعه: (سَـيِّدُ إدامِكُم المِلحُ). وسيد الشىء: هو الذي يُصلحه، ويقومُ عليه، وغالبُ الإدام إنما يصلح بالملح. وفى (مسند البزَّار) مرفوعاً: (سَيُوشِكُ أن تكونوا في النَّاس مِثْلَ المِلْحِ في الطَّعَام، ولا يَصلُحُ الطَّعَامُ إلا بالمِلْحِ). وذكر البغوىُّ في (تفسيره): عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما مرفوعاً: (إنَّ اللهَ أنزلَ أربعَ بركاتٍ من السَّمَاء إلى الأرْضِ: الحَدِيدَ، والنارَ، والماءَ، والمِلْحَ). والموقوف أشبَهُ. المِلْحُ يُصلِح أجسام الناس وأطعمتهم، ويُصلِح كُلَّ شىء يُخالطه حتى الذَّهبَ والفِضَّة، وذلك أن فيه قوةً تزيدُ الذهبَ صُفرةً، والفِضَّةَ بياضاً، وفيه جِلاءٌ وتحليل، وإذهابٌ للرطوبات الغليظة، وتنشيفٌ لها، وتقويةٌ للأبدان، ومنعٌ من عفونتها وفسادها، ونفعٌ من الجرب المتقرِّح. وإذا اكتُحِلَ به، قلع اللَّحم الزائد من العَيْن، ومحَقَ الظَّفَرَة. والأندرانى أبلغُ في ذلك، ويمنعُ القروحَ الخبيثة من الانتشار، ويُحدِرُ البراز، وإذا دُلِكَ به بطونُ أصحابِ الاستسقاء، نفعهم، ويُنقى الأسنانَ، ويدفعُ عنها العُفُونة، ويشُدُّ اللِّثة ويُقويها، ومنافعه كثيرة جدّاً مذكور في القرآن في غير موضع، وفى (الصحيحين): عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال: بيْنَا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أُتِىَ بجُمَّارِ نخلة، فقال النبىُّ صلى الله عليه وسلم: (إنَّ مِن الشَّجَرِ شَجَرةً مَثَلُها مَثَلُ الرَّجُلِ المسلِمِ لا يَسقُطُ وَرَقُها، أخْبِرُونى ما هي ؟ فوقع الناسُ في شجر البوادى، فوقع في نفسى أنها النخلة، فأردتُ أن أقول: هي النخلة، ثم نظرتُ فإذا أنا أصغرُ القوم سِنّاً، فسكتُّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هي النَّخْلَةُ)، فذكرتُ ذلك لعمرَ، فقال: لأَنْ تكونَ قُلْتَهَا أحبُّ إلىَّ من كذا وكذا. ففى هذا الحديث إلقاءُ العالِمُ المسائلَ على أصحابه، وتمرينُهم، واختبارُ ما عندهم. وفيه ضربُ الأمثال والتشبيه. وفيه ما كان عليه الصحابةُ من الحياء من أكابرهم وإجلالهم وإمساكهم عن الكلام بين أيديهم. وفيه فرحُ الرجل بإصابة ولده، وتوفيقه للصواب وفيه أنه لا يُكره للولد أن يُجيبَ بما يَعْرِفُ بحضرة أبيه، وإن لم يَعرفه الأبُ، وليس في ذلك إساءةُ أدب عليه.وفيه ما تضمنه تشبيهُ المسلم بالنخلة من كثرة خيرها، ودوامِ ظلها، وطيبِ ثمرها، ووجودِهِ على الدوام. وثمرُها يؤكل رطباً ويابساً، وبلحاً ويانعاً، وهو غذاء ودواء وقوت وحَلْوى، وشرابٌ وفاكهة، وجذُوعها للبناء والآلات والأوانى، ويُتخَذ مِن خُوصها الحُصُر والمكاتِل والأوانى والمراوح، وغير ذلك، ومن ليفها الحبالُ والحشايا وغيرها، ثم آخر شىء نواها علفٌ للإبل، ويدخل في الأدوية والأكحال، ثم جمالُ ثمرتها ونباتها وحسنُ هيئتها، وبهجةُ منظرها، وحسنُ نضد ثمرها، وصنعته وبهجته، ومسرَّةُ النفوس عند رؤيته، فرؤيتها مذكِّرة لفاطرها وخالقها، وبديع صنعته، وكمالِ قدرته، وتمامِ حكمته، ولا شىء أشبَهُ بها من الرجل المؤمن، إذ هو خيرٌ كُلُّهُ، ونفعٌ ظاهرٌ وباطن. وهى الشجرة التي حَنَّ جِذعُها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فارقه شوقاً إلى قُربه، وسماع كلامه، وهى التي نزلتْ تحتها مريمُ لما ولدتْ عيسى عليه السلام. وقد ورد في حديث في إسناده نظرٌ: (أكرِمُوا عَمَّتَكُم النخلَةَ، فإنها خُلِقَتْ من الطِّين الذي خُلق منه آدَمُ). وقد اختلف الناسُ في تفضيلها على الحَبْلَةِ أو بالعكس على قولين، وقد قرن اللهُ بينهما في كتابه في غير موضع، وما أقْربَ أحدَهما من صاحبه، وإن كان كُلُّ واحد منهما في محل سلطانه ومَنبِته، والأرض التي توافقه أفضلَ وأنفعَ. فيه حديث لا يصح: (عليكم بِشَـمِّ النَّرجِس فإنَّ في القَلْبِ حَبَّةَ الجنونِ والجُذام والبَرَصِ، لا يقطعُها إلا شمُّ النَّرجِسِ). وهو حارٌ يابس في الثانية، وأصلُه يُدمل القروحَ الغائرة إلى العَصَب، وله قوة غَسَّالة جَالِيَةٌ جَابِذَةٌ، وإذا طُبِخَ وشُرِبَ ماؤه، أو أُكِلَ مسلوقاً، هَيَّج القىء، وجذبَ الرطوبة من قعر المَعِدَة، وإذا طُبِخَ مع الكِرْسِنَّة والعسل، نقَّى أوساخَ القُروح، وفجَّر الدُّبَيْلاَتِ العَسِرَةِ النضج. وزهرُه معتدل الحرارة، لطيفٌ ينفع الزُّكام البارد، وفيه تحليل قوى، ويفتحُ سُدد الدماغ والمنخرين، وينفعُ من الصُّداع الرطب والسَّوداوى، ويصدَعُ الرؤوس الحارة، والمُحْرَقْ منه إذا شُقَّ بصلُه صَلِيباً، وغُرِسَ، صار مضاعَفاً، ومَن أدْمَن شمَّه في الشتاء أمِنَ من البِرْسام في الصيف، وينفعُ مِن أوجاع الرأس الكائنة من البلغم والمِرَّة السوداء، وفيه من العِطرية ما يُقوِّى القلبَ والدماغ، وينفعُ من كثير من أمْراضها. وقال صاحب (التيسير): (شمُّه يُذهب بصَرْع الصبيان). روى ابن ماجه: من حديث أُمِّ سلمة رضى الله عنها، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا اطََّلى بدأ بعورتِه، فطَلاَها بالنُّوَرة، وسائِرَ جسدِه أهلُه، وقد ورد فيها عدةُ أحاديث هذا أمثَلُها. وقد قيل: إنَّ أولَ مَن دخل الحمَّام، وصُنِعَتْ له النُّوَرةُ: سليمانُ بن داودَ. وأصلُها: كِلْسٌ جزآن، وزِرْنيخ جزء، يُخلطان بالماء، ويُتركان في الشمس أو الحمَّام بقدر ما تَنْضَجُ، وتشتد زُرقته. ثم يُطلى به، ويجلِس ساعة رَيْثَما يعمل، ولا يُمَس بماء، ثم يُغسل، ويُطلى مكانها بالحِنَّاء لإذهاب ناريَّتِها. ذكر أبو نعيم في كتابه (الطب النبوى) مرفوعاً: (إنَّ آدمَ لَمَّا أُهْبِطَ إلى الأرض كان أولَ شىء أكل مِن ثمارها النَّبِقُ). وقد ذكر النبىُّ صلى الله عليه وسلم النَّبِقَ في الحديث المتفق على صحته: أنه رأى سِدْرَة المُنتهى ليلةَ أُسْرِىَ به، وإذا نَبِقُها مِثْلُ قِلالِ هَجَرٍ. والنَبِق: ثمر شجر السدر يعقِل الطبيعة، وينفع من الإسهال، ويدبُغ المَعِدَة، ويُسَكِّن الصفراء، ويَغذو البدنَ، ويُشهِّى الطَّعام، ويُولِّد بلغماً، وينفع الذَّرَب الصفراوىَّ، وهو بطىء الهضم، وسَويقُه يُقوِّى الحشا، وهو يُصْلِحُ الأمزجة الصفراوية، وتُدفع مضرتُه بالشهد. واختُلِفَ فيه، هل هو رطب أو يابس ؟ على قولين. والصحيح: أنَّ رطبه بارد رطب، ويابسه بارد يابس. ورد فيها ثلاثةُ أحاديث لا تصِحُّ عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا يثبُت مثلها، بل هي موضوعة.. أحدها: (كُلُوا الهِندَبَاءَ ولا تَنْفُضُوهُ فإنه ليس يومٌ مِنَ الأيام إلا وقَطَراتٌ من الجَنَّةِ تَقْطُر عليه). الثانى: (مَن أكَلَ الهِندبَاء، ثم نام عليها لم يَحِلَّ فيهِ سَمٌ ولا سِحرٌ). الثالث: (ما مِنْ وَرَقةٍ من وَرَقِ الهِنْدبَاء إلا وعليها قَطْرَةٌ من الجَنَّةِ). وبعد.. فهى مستحيلة المزاج، منقلبةٌ بانقلاب فصول السنة، فهى في الشتاء باردة رطبة، وفى الصيف حارة يابسة، وفى الرَّبيعِ والخريفِ معتدِلة، وفى غالب أحوالِها تميلُ إلى البرودة واليُبْس، وهى قابضة مبردةٌ، جيدةٌ للمَعِدَة، وإذا طُبِخَت وأُكلت بِخَلٍّ، عقَلتِ البطن وخاصةٌ البَرىَّ منها، فهى أجود للمَعِدَة، وأشد قبضاً، وتنفع مِن ضعفها. وإذا تُضمِّد بها، سلبت الالتهاب العارض في المَعِدَة، وتنفع من النقْرس، ومن أورام العَيْن الحارة. وإذا تُضمِّد بَوَرَقِها وأُصولها، نفعت من لسع العقرب.وهى تُقَوِّى المَعِدَة، وتفتح السُّدد العارضة في الكَبِد، وتنفع مِن أوجاعها حارِّها وباردِها، وتفتح سُدَد الطِّحال والعروق والأحشاء، وتُنَقِّى مجارى الكُلَى. وأنفعُهَا للكَبِدِ أمرُّها، وماؤها المعتَصَر ينفع من اليَرَقان السدَدى، ولا سِيَّما إذا خُلِط به ماء الرَّازَيَانَج الرطب، وإذا دُقَّ ورقُها، ووُضِع على الأورام الحارة برَّدها وحلَّلها، ويجلو ما في المَعِدَة، ويُطفئُ حرارة الدَّم والصفراء. وأصلحُ ما أُكلت غير مغسولة ولا منفوضة، لأنها متى غُسلت أو نُفِضَت، فارقتها قُوَّتُها، وفيها مع ذلك قوة تِرياقية تنفعُ مِن جميع السموم. وإذا اكتُحِلَ بمائها، نفع من العَشَا، ويدخل ورقُها في الترياق، وينفعُ من لدغ العقرب، ويُقاوِم أكثرَ السموم، وإذا اعتُصِرَ ماؤها، وصُبَّ عليه الزيتُ، خلَّص من الأدوية القتَّالة، وإذا اعتُصِرَ أصلُهَا، وشُرِبَ ماؤه، نفع من لسع الأفاعى، ولسع العقرب، ولسع الزنبور، ولبن أصلها يجلو بياضَ العَيْن. ذكر الترمذى في (جامعه): من حديث زيد بن أرْقمَ، عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم ( أنه كان ينعَتُ الزَّيْتَ والوَرْسَ من ذات الجَنْبِ)، قال قتادةُ: يُلَدُّ به، ويُلَدُّ من الجانبِ الذي يشتكِيه. وروى ابن ماجه في (سننه) من حديث زيد بن أرقم أيضاً، قال: (نعتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن ذَاتِ الجَنْبِ وَرْساً وقُسْطاً وزيتاً يُلَدُّ به). وصَحَّ عن أُمِّ سلمة رضى الله عنها قالت: (كانت النُّفَسَاءُ تَقْعُدُ بعدَ نِفاسِهَا أربعينَ يوماً، وكانت إحدانا تَطْلى الوَرْسَ على وَجْهِهَا من الكَلَف). قال أبو حنيفة اللُّغوىُّ: الوَرْسُ يُزرع زرعاً، وليس ببَرِّىٍّ، ولستُ أعرفه بغيرِ أرضِ العربِ، ولا مِن أرض العرب بغير بلاد اليمن. وقوتُه في الحرارة واليُبوسة في أوَّل الدرجة الثانية، وأجودُه الأحمرُ اللَّيِّن في اليد، القليلُ النُّخالة، ينفع من الكَلَفِ، والحِكَّة، والبثور الكائنة في سطح البدن إذا طُلِىَ به، وله قوةٌ قابضة صابغة، وإذا شُرِبَ نفع مِن الوَضَحِ، ومقدارُ الشربة منه وزنُ درهم.وهو في مزاجه ومنافعه قريبٌ من منافع القُسْط البحرىِّ، وإذا لُطخ به على البَهَق والحِكَّة والبثورِ والسُّفعة نفع منها، والثوبُ المصبوغ بالوَرْس يُقوِّى على الباه. هي: ورق النيل، وهى تُسوِّد الشعر، وقد تقدَّم قريباً ذكرُ الخلاف في جواز الصبغ بالسواد ومَن فعله. وهو الدُّبَّاء والقرع، وإن كان اليقطينُ أعمَّ، فإنه في اللُّغة: كل شجر لا تقومُ على ساق، كالبِّطيخ والقِثاء والخيار. قال الله تعالى: فإن قيل: ما لا يقومُ على ساق يُسمى نَجْماً لا شجراً، والشجر: ما له ساق قاله أهل اللُّغة فكيف قال: واليقطين المذكور في القرآن: هو نبات الدُّبَّاء، وثمره يُسمى الدُّبَّاء والقرْعَ، وشجرة اليقطين.وقد ثبت في (الصحيحين): من حديث أنس بن مالك، أنَّ خياطاً دعا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لطعام صنَعه، قال أنسٌ رضى الله عنه: فذهبتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقرَّب إليه خُبزاً من شعير، ومرَقاً فيه دُبَّاءٌ وقَدِيدٌ، قال أنس: فرأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتتبَّعُ الدُّبَّاء من حَوالى الصَّحْفَةِ، فلم أزل أُحِبُّ الدُّبَّاءَ من ذلك اليوم.وقال أبو طالُوتَ: دخلتُ على أنس بن مالك رضى الله عنه، وهو يأكل القَرْع، ويقول: يا لكِ من شجرةٍ ما أحبَّك إلىَّ لحُبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إيَّاكِ. وفى (الغَيْلانيَّات): من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشةَ رضى الله عنها قالت: قال لى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (يا عائشةُ؛ إذا طبَخْتُم قِدْراً، فأكثِروا فيها من الدُّبَّاء، فإنَّهَا تَشُدُّ قَلْبَ الحَزِين). اليقطين: بارد رطب، يغذو غِذاءً يسيراً، وهو سريعُ الانحدارِ، وإن لم يفسُد قبل الهضم، تولَّد منه خِلْطٌ محمود، ومِن خاصيته أنه يتولَّد منه خِلط محمود مجانس لما يصحبُه، فإن أُكِلَ بالخَرْدل، تولَّد منه خِلطٌ حِرِّيف، وبالملح خِلطٌ مالح، ومع القابض قابضٌ، وإن طُبخَ بالسفرجل غَذَا البدن غِذاءً جيداً. وهو لطيفٌ مائىٌ يغذو غذاءً رطباً بلغمياً، وينفع المَحْرورين، ولا يُلائم المَبْرودين، ومَن الغالبُ عليهم البلغمُ، وماؤه يقطعُ العطش، ويُذهبُ الصُّداع الحار إذا شُرِبَ أو غُسِلَ به الرأسُ، وهو مُليِّن للبطن كيف استُعْمِل، ولا يتداوَى المحرورون بمثله، ولا أعجلَ منه نفعاً.ومن منافعه: أنه إذا لُطِخَ بعجين، وشُوِىَ في الفرن أو التَّنُّور، واستُخْرِج ماؤه وشُرِبَ ببعض الأشربة اللَّطيفة، سَكَّن حرارة الحُمَّى الملتهبة، وقطع العطش، وغذَّى غِذاءً حسناً، وإذا شُرِبَ بترنْجبين وسَفَرْجَل مربَّى أسهل صفراءَ محضةً. وإذا طُبِخَ القرعُ، وشُرِبَ ماؤه بشىءٍ من عسل، وشىءٍ من نَطْرون، أحدَرَ بلغماً ومِرَّة معاً، وإذا دُقَّ وعُمِلَ منه ضِمادٌ على اليافوخ، نفع من الأورام الحارة في الدماغ. وإذا عُصِرَت جُرَادتُه، وخُلِطَ ماؤها بدُهن الورد، وقُطِر منها في الأُذن، نفعتْ مِن الأورام الحارة، وجُرادتُه نافعة من أورامِ العَيْن الحارة، ومن النِّقْرِس الحار.وهو شديدُ النفع لأصحاب الأمزجة الحارة والمحمومين، ومتى صادف في المَعِدَة خِلطاً رديئاً، استحال إلى طبيعته، وفسد، وولَّد في البدن خِلْطاً رديئاً، ودفعُ مضرته بالخلِّ والمُرِّى. وبالجملةِ.. فهو من ألطفِ الأغذيةِ، وأسرعِهَا انفعالاً، ويُذكر عن أنس رضى الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كان يُكثرُ مِن أكلِه. وقد رأيتُ أن أختِمَ الكلامَ في هذا البابِ بفصلٍ مختصر عظيمِ النفع في المحاذِرِ، والوصايا الكلية النافعةِ لِتتمَّ منفعةُ الكتاب ورأيتُ لابن ماسَوَيْه فصلاً في كتاب (المحاذير) نقلتُه بلفظه، قال:(مَن أكل البصلَ أربعين يوماً وكَلِفَ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه.ومَن افتَصد، فأكل مالِحاً فأصابه بَهَقٌ أو جَرَبٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن جمع في مَعِدَته البيض والسمكَ، فأصابه فالِج أو لَقْوةٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن دخلَ الحمَّامَ وهو ممتلئ، فأصابه فالجٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسه. ومَن جمع في مَعِدته اللَّبنَ والسَّمكَ، فأصابه جُذام، أو بَرَصٌ أو نِقْرِسٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن جمع في مَعِدَتِهِ اللَّبنَ والنِّبيذَ، فأصابه بَرَصٌ أو نِقْرِسٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن احتَلَم، فلم يغتسلْ حتى وَطِىءَ أهلَه، فولدتْ مجنوناً أو مَخَبَّلاً، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن أكل بَيْضاً مسلوقاً بارداً، وامتلأ منه، فأصابه رَبوٌ، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن جامَعَ، فلم يَصْبِر حتى يُفْرِغَ، فأصابه حصاة، فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. ومَن نظر في المرآة ليلاً، فأصابه لَقْوة، أو أصابه داء، فلا يلومَنَّ إلاَّ نفسَه). وقال ابن بَخْتَيَشُوع: (احذرْ أن تجمعَ البَيْضَ والسَّمكَ، فإنهما يُورثان القُولنْج والبواسير، ووجعَ الأضراس) وإدامةُ أكل البَيْض يُوَلِّد الكَلَف في الوجه، وأكلُ الملوحة والسَّمَك المالح والافتصاد بعد الحمَّام يُولِّد البَهَق والجَرَب. إدامةُ أكل كُلَى الغنم يَعقِرُ المثانة. الاغتسالُ بالماء البارد بعد أكل السَّمَكِ الطرىِّ يُولِّدُ الفالج. وطءُ المرأة الحائض يُولِّدُ الجُذام. الجماعُ من غير أن يُهَرِيقَ الماء عقيبَه يُولِّد الحصاة. (طولُ المُكث في المَخْرج يُولِّد الداءَ الدَّوِىَّ ). وقال أبقراط: (الإقلال مِن الضار، خيرٌ مِن الإكثار من النافع)، وقال: (استديموا الصحة بتركِ التكاسل عن التعب، وبتركِ الامتلاء من الطعام والشراب). وقال بعضُ الحكماء: (مَن أراد الصِّحة، فليجوِّد الغِذاء، وليأكل على نقاء، وليشرب على ظمإٍ، وليُقلِّلْ مِن شُرب الماء، ويتمدَّدْ بعد الغداء، ويَتَمشَّ بعدَ العَشاء، ولا ينم حتى يَعْرِضَ نفسَه على الخَلاء، وليحذر دخول الحمَّام عقيبَ الامتلاء، ومرةٌ في الصيف خيرٌ من عشرٍ في الشتاء، وأكلُ القديد اليابس بالليل مُعِينٌ على الفناء، ومجامعةُ العجائز تُهْرِمُ أعمارَ الأحياءِ، وتُسقِم أبدان الأصحاء). ويُروى هذا عن علىٍّ رضى الله عنه، ولا يَصِحُّ عنه، وإنما بعضُه مِن كلام الحارث بن كلَدَةَ طبيبِ العرب، وكلامِ غيره. وقال الحارث: ( مَن سَرَّه البقاء ولا بقاء فليُباكِرِ الغَداء، وليُعَجِّل العَشَاء، وليُخفِّف الرِّداء، وليُقِلَّ غِشيان النساء). وقال الحارث: (أربعةُ أشياءَ تهدِمُ البدن: الجِماعُ على البِطْنة، ودخولُ الحمَّام على الامتلاء، وأكلُ القديد، وجِماعُ العجوز).ولما احتُضِرَ الحارث اجتمع إليه الناسُ، فقالوا: مُرْنا بأمر ننتهى إليه مِن بعدك. فقال: (لا تتزوجوا من النساء إلا شابةً، ولا تأكلوا من الفاكهة إلا في أوان نُضجها، ولا يتعالجَنَّ أحدُكم ما احتمل بدنه الداء، وعليكم بتنظيف المَعِدَة في كل شهر، فإنها مُذيبة للبلغم، مُهلكة للمِرَّة، مُنبتة للحم، وإذا تَغدَّى أحدكم، فلينم على إثر غدائه ساعة، وإذا تعشَّى فليمشِ أربعين خطوةً). وقال بعض الملوك لطبيبه: لعلَّك لا تبقَى لى، فصِفْ لى صِفة آخذُها عنك، فقال: (لا تنكِحْ إلا شابةً، ولا تأكُلْ مِن اللَّحم إلا فَتِّياً، ولا تشربِ الدواء إلا من عِلَّة، ولا تأكُلِ الفاكهةَ إلا في نُضجها، وأجِدْ مضغَ الطعام، وإذا أكلتَ نهاراً فلا بأس أن تنامَ، وإذا أكلتَ ليلاً فلا تنم حتى تمشىَ ولو خمسين خطوة، ولا تأكلنَّ حتى تجوع، ولا تتكارَهَنَّ على الجِمَاع، ولا تحبِس البَوْل، وخُذ مِن الحَمَّام قبلَ أن يأخُذَ منك، ولا تأكلَنَّ طعاماً وفى مَعِدَتِك طعامٌ، وإياكَ أن تأكل ما تعجز أسنانُك عن مضغِه، فتعجِزَ مَعِدَتُك عن هضمه، وعليك في كل أسبوعٍ بقيئة تُنقِّى جسمَك، ونِعْمَ الكنزُ الدمُ في جسدك، فلا تُخْرِجْه إلا عند الحاجة إليه، وعليك بدخول الحمَّام، فإنه يُخرج مِن الأطباق ما لا تَصِلُ الأدوية إلى إخراجه). وقال الشافعى: (أربعةٌ تُقوِّى البدن: أكلُ اللَّحم، وشمُّ الطِّيب، وكثرةُ الغسلِ مِن غير جِماع، ولُبْسُ الكَتَّان) وأربعةُ تُوهِن البدن: كثرةُ الجِماع، وكثرةُ الهم، وكثرةُ شرب الماء على الرِّيق، وكثرةُ أكل الحامِض. وأربعةُ تُقوِّى البصر: الجلوسُ حِيالَ الكعبة، والكحلُ عند النوم، والنظرُ إلى الخُضرة، وتنظيف المجلس. وأربعةُ توهِنُ البصر: النظرُ إلى القذَرِ، وإلى المصلوبِ، وإلى فَرْجِ المرأة، والقعودُ مستدبِرَ القِبْلَة. وأربعةُ تزيدُ في الجِمَاع: أكلُ العصافير، والإطْرِيفل، والفُسْتُق، والخرُّوب. وأربعةُ تزيد في العقل: تَرْكُ الفُضول مِن الكلام، والسِّواكُ، ومجالسةُ الصَّالحين، ومجالسةُ العلماء). وقال أفلاطون: (خمسٌ يُذبنَ البدنَ وربما قتلن: قِصَرُ ذاتِ اليد، وِفراقُ الأحِبَّة، وتجرُّع المغايظ، وردُّ النصح، وضحكُ ذوى الجهل بالعُقلاء). وقال طبيبُ المأمون: (عليك بخصالٍ مَنْ حَفِظَها فهو جديرٌ أن لا يعتلَّ إلا عِلَّة الموت: لا تأكُلْ طعاماً وفى مَعِدَتِك طعام، وإيَّاكَ أن تأكل طعاماً يُتْعِبُ أضراسكَ في مضغه، فتعجزُ مَعِدَتُك عن هضمه، وإياكَ وكثرةَ الجِماع، فإنه يُطفىء نور الحياة، وإياك ومجامعة العجوز، فإنه يُورث موت الفَجْأة، وإياكَ والفصدَ إلا عند الحاجة إليه، وعليك بالقىء في الصَّيف). ومن جوامع كلمات أبقراط قوله: (كُلُّ كثيرٍ فهو مُعادٍ للطبيعة). وقيل لجالينوسَ: ما لَكَ لا تمرَضُ ؟ فقال: ( لأنى لم أجمع بين طعامَين رديئين، ولم أُدْخِلْ طعاماً على طعام، ولم أَحْبِسُ في المَعِدَة طعاماً تأذَّيتُ به). وأربعةُ أشياء تُمرض الجسم: الكلامُ الكثير، والنومُ الكثير، والأكلُ الكثير، والجِماعُ الكثير. فالكلامُ الكثير: يُقلِّل مخَّ الدِّماغ ويُضعفه، ويُعجِّل الشيب. والنومُ الكثير: يُصفِّرُ الوجه، ويُعمى القلب، ويُهيِّجُ العَيْن، ويُكسِلُ عن العمل، ويُولِّد الرطوباتِ في البدن. والأكلُ الكثيرُ: يُفسِدُ فمَ المَعِدَة، ويُضْعِفُ الجسم، ويُولِّدُ الرياح الغليظة، والأدواء العَسِرة. والجِماعُ الكثير: يَهُدُّ البدن، ويُضعفُ القُوَى، ويُجفِّف رطوباتِ البدن، ويُرخى العصبَ، ويُورث السُّدد، ويَعُمُّ ضررُه جميعَ البدن، ويخصُّ الدماغ لكثرة ما يتحلَّل به من الروح النفسانىِّ، وإضعافُه أكثر من إضعاف جميع المستفرِغات، ويَستفرغ مِن جوهر الروح شيئاً كثيراً. وأنفعُ ما يكون إذا صادف شهوةً صادقة مِن صورة جميلة حديثةِ السِّنِ حلالاً مع سِنِّ الشُّبوبية، وحرارةِ المزاج ورطوبته، وبُعدِ العهد به وخَلاءِ القلب من الشواغل النفسانية، ولم يُفْرطْ فيه، ولم يُقارنه ما ينبغى تركُه معه مِن امتلاء مفرط، أو خَوَاء، أو استفراغ، أو رياضة تامة، أو حَرٍّ مفرِط، أو بردٍ مفرِط، فإذا راعى فيه هذه الأُمور العشرة، انتفعَ به جداً، وأيُّها فُقِدَ فقد حصلَ له من الضرر بحسبه، وإن فُقِدَتْ كلُّها أو أكثرها، فهو الهلاك المعجَّل. والحِمْيَةُ المفرطة في الصحة، كالتخليط في المرض. والحِمْيَةُ المعتدلة نافعة. وقال جالينوسُ لأصحابه: (اجتنِبوا ثلاثاً، وعليكم بأربع، ولا حاجةَ بكم إلى طبيب: اجتنبوا الغُبار، والدخان، والنَّتن، وعليكم بالدَّسم، والطِّيب، والحَلْوى، والحمَّام، ولا تأكلوا فوقَ شِبعكم، ولا تتخلَّلوا بالباذَرُوج والرَّيحان، ولا تأكلوا الجَوزَ عند المساء، ولا ينمْ مَن به زُكمةٌ على قفاه، ولا يأكل مَن به غَمٌ حامِضاً، ولا يُسرعِ المشىَ مَن افتَصد، فإنه مخاطرةُ الموت، ولا يتقيَّأ مَن تؤلمه عينُه، ولا تأكلُوا في الصيف لحماً كثيراً، ولا ينمْ صاحبُ الحُمَّى الباردة في الشمسِ، ولا تقرَبُوا الباذَنجان العتيق المبزر، ومَن شرب كُلَّ يوم في الشتاء قدحاً من ماء حار، أمِنَ من الأعلال، ومَن دَلَكَ جسمه في الحمَّام بقشُور الرُّمَّان أمِنَ مِنَ الجرَب والحِكَّة، ومَن أكل خمسَ سَوْسنات مع قليل من مُصْطَكى رومى، وعودٍ خام، ومسك، بقى طولَ عمره لا تضعُفَ مَعِدَتُه ولا تفسُد، ومَن أكل بِزر البطِّيخ مع السكر، نظَّف الحَصَى مِن مَعِدَته، وزالت عنه حُرْقة البَوْل). أربعةٌ تَهدِم البدن: الهمُّ، والحزنُ، والجوعُ، والسهرُ. وأربعةٌ تُفرح: النظرُ إلى الخُضرةِ، وإلى الماءِ الجارى، والمحبوب، والثمار. وأربعةٌ تُظلم البصر: المشىُ حافياً، والتصبُّحُ والتمسى بوجه البغيض والثقيل والعدو، وكثرةُ البكاء، وكثرةُ النظر في الخط الدقيق. وأربعةٌ تُقوِّى الجسم: لُبْسُ الثوب الناعم، ودخولُ الحمَّام المعتدل، وأكلُ الطعام الحلو والدَّسم، وشَمُّ الروائح الطيبة. وأربعةٌ تُيبس الوجه، وتُذهب ماءه وبهجته وطلاوته: الكَذِبُ، والوقاحةُ، وكثرةُ السؤال عن غير علم، وكثرةُ الفجور وأربعةٌ تَزيد في ماء الوجه وبهجتِهِ: المروءةُ، والوفاءُ، والكرمُ، والتقوى. وأربعةٌ تَجلِبُ البغضاء والمقت: الكِبرُ، والحَسَدُ، والكَذِبُ، والنَّميمةُ. وأربعةٌ تَجلِبُ الرِّزق: قيامُ اللَّيل، وكثرةُ الاستغفار بالأسحار، وتعاهُدُ الصَدَقة، والذِكْرُ أولَ النهارِ وآخرَه. وأربعةٌ تمنع الرِّزق: نومُ الصُّبْحة، وقِلَّةُ الصلاة، والكَسَلُ، والخيانةُ. وأربعةٌ تَضُرُّ بالفهم والذهن: إدمانُ أكل الحامض والفواكه، والنومُ على القفا، والهمُّ، والغمُّ. وأربعةٌ تَزيد في الفهم: فراغُ القلب، وقِلَّةُ التملِّى من الطعام والشراب، وحُسنُ تدبير الغذاء بالأشياء الحُلوة والدَّسِمة، وإخراجُ الفَضلات المُثْقِلَةِ للبدن. وممَّا يضرُّ بالعقل: إدمانُ أكل البصل، والباقِلا، والزَّيتون، والباذِنجان، وكَثرةُ الجِماع، والوحدةُ، والأفكارُ، والسُّكْرُ، وكَثْرةُ الضَّحِك، والغم. قال بعضُ أهل النظر : (قُطِعتُ في ثلاث مجالسَ ، فلم أجِد لذلك عِلَّةً إلاَّ أنى أكثرتُ من أكل الباذنجان في أحد تلك الأيام ، ومن الزيتون في الآخر ، ومن الباقِلا في الثالث) . قد أتَيْنا على جُملة نافعة من أجزاء الطبِّ العلمىِّ والعملىّ، لعلَّ الناظرَ لا يظفرُ بكثير منها إلا في هذا الكتاب، وأرَيْناك قُربَ ما بينها وبينَ الشريعة، وأنَّ الطبَّ النبوى نسبةُ طِبِّ الطبائعيين إليه أقلُّ مِن نسبة طب العجائز إلى طبهم. والأمر فوق ما ذكرناه، وأعظمُ مما وصفناه بكثير، ولكن فيما ذكرناه تنبيهٌ باليسير على ما وراءه، ومَن لم يرزُقه اللهُ بصيرة على التفصيل، فليعلمْ ما بيْنَ القوَّةِ المؤيَّدةِ بالوحى من عند اللهِ، والعلومِ التي رزقها اللهُ الأنبياءَ، والعقولِ والبصائر التي منحهم الله إياها، وبين ما عند غيرهم. ولعل قائلاً يقولُ: ما لهَدْىِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وما لِهذا الباب، وذكْرِ قُوى الأدوية، وقوانين العِلاج، وتدبيرِ أمر الصحة ؟ وهذا مِن تقصير هذا القائل في فهم ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ هذا وأضعافَه وأضعافَ أضعافه مِن فهم بعض ما جاء به، وإرشادِه إليه، ودلالته عليه، وحُسنُ الفهم عن الله ورسوله مَنٌ يَمُنُّ اللهُ به على مَنْ يشاءُ من عباده. فقد أوجدناك أُصولَ الطِّب الثلاثة في القرآن، وكيف تُنكر أن تكونَ شريعةُ المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة مشتملةً على صلاح الأبدان، كاشتمالها على صلاح القلوب، وأنها مُرشدة إلى حِفظ صحتها، ودفع آفاتها بطُرق كُليَّة قد وُكِلَ تفصيلُها إلى العقل الصحيح، والفِطرة السليمة بطريق القياس والتنبيه والإيماء، كما هو في كثير من مسائل فروع الفقه، ولا تكن ممن إذا جهل شيئاً عاداه. ولو رُزِقَ العبدُ تضلُّعاً مِن كتاب الله وسُـنَّة رسوله، وفهماً تاماً في النصوص ولوازمها، لاستغنَى بذلك عن كُلِّ كَلامٍ سواه، ولاستنبَطَ جميعَ العلومِ الصحيحة منه. فمدارُ العلوم كلها على معرفة الله وأمره وخَلْقِه، وذلك مُسْلَّم إلى الرُّسُل صلوات الله عليهم وسلامه، فهم أعلمُ الخلق بالله وأمرِه وخَلْقِه وحِكمته في خلقه وأمره. وطبُّ أتباعهم: أصحُّ وأنفعُ مِن طبِّ غيرهم، وطِبُّ أتباع خاتمهم وسيدهم وإمامهم محمَّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم: أكملُ الطِّب وأصحُّه وأنفعُه. ولا يَعْرِفُ هذا إلا مَن عرف طبَّ الناسِ سواهم وطِبَّهم، ثم وازن بينهما، فحينئذٍ يظهُر له التفاوتُ، وهم أصَحُّ الأُمم عقولاً وفِطَراً، وأعظمُهم علماً، وأقربُهم في كل شىء إلى الحَقِّ لأنهم خِيرة الله من الأُمم، كما أنَّ رسولهم خيرتُه مِن الرُّسُل، والعلمُ الذي وهبهم إيَّاه، والحلمُ والحكمةُ أمرٌ لا يدانيهم فيه غيرُهم. وقد روى الإمامُ أحمد في (مسنده): من حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضى الله عنه، قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : (أنتُمْ تُوَفُّون سبعين أُمَّةً أنتُم خَيرُها وأكْرَمُها على اللهِ) . فظَهَر أثرُ كرامتها على الله سبحانه في علومهم وعقولهم ، وأحلامهم وفِطَرهم ، وهم الذين عُرِضَتْ عليهم علومُ الأُمم قبلَهم وعقولهم ، وأعمالُهم ودرجاتُهم ، فازدادوا بذلك عِلماً وحلماً وعقولاً إلى ما أفاض اللهُ سبحانه وتعالى عليهم مِن علمه وحلمه ولذلك كانت الطبيعة الدمويَّةُ لهم، والصفراويَّةُ لليهود، والبلغميَّةُ للنصارى، ولذلك غَلَبَ على النصارى البلادةُ، وقِلَّةُ الفهم والفِطنةِ، وغَلَبَ على اليهود الحزنُ والهمُّ والغمُّ والصَّغار، وغَلَبَ على المسلمين العقلُ والشجاعةُ والفهمُ والنجدةُ، والفرحُ والسرور. وهذه أسرارٌ وحقائق إنما يَعرِفُ مقدارَها مَنْ حَسُنَ فهمُه، ولَطُفَ ذِهنُه، وغَزُرَ عِلمُه، وعرف ما عند الناس.. وبالله التوفيق. ولذلك كانت الطبيعة الدمويَّةُ لهم ، والصفراويَّةُ لليهود ، والبلغميَّةُ للنصارى ، ولذلك غَلَبَ على النصارى البلادةُ ، وقِلَّةُ الفهم والفِطنةِ ، وغَلَبَ على اليهود الحزنُ والهمُّ والغمُّ والصَّغار ، وغَلَبَ على المسلمين العقلُ والشجاعةُ والفهمُ والنجدةُ ، والفرحُ والسرور . وهذه أسرارٌ وحقائق إنما يَعرِفُ مقدارَها مَنْ حَسُنَ فهمُه ، ولَطُفَ ذِهنُه ، وغَزُرَ عِلمُه ، وعرف ما عند الناس .. وبالله التوفيق . نهاية الجزء الرابع
211
|